فصل: تفسير الآيات رقم (84- 95)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 95‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

أي وأرسلنا إلى مدين، وهم قوم شعيب، أخاهم في النسب شعيباً‏.‏ وسموا مدين باسم أبيهم، وهو مدين ابن إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ باسم مدينتهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة، وقد تقدّم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا، وقد تقدّم تفسير‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاقَوْمٌ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ في أوّل السورة، وهذه الجملة مستأنفة؛ كأنه قيل‏:‏ ماذا قال لهم شعيب لما أرسله الله إليهم‏؟‏ وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، أمرّهم أوّلاً بعبادة الله سبحانه الذي هو الإله وحده لا شريك له، ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان، لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص؛ وجملة ‏{‏إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ‏}‏ تعليل للنهي‏:‏ أي لا تنقصوا المكيال والميزان لأني أراكم بخير‏:‏ أي بثروة وسعة في الرزق، فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده، ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها، ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ‏}‏ فهذه العلة فيها الإذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا؛ ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب، لأن العذاب واقع في اليوم؛ ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم، أنه لا يشذ منهم أحد عنه، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهرباً، واليوم‏:‏ هو يوم القيامة، وقيل‏:‏ هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة‏.‏

ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله‏:‏ ‏{‏وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط‏}‏ والإيفاء‏:‏ هو الإتمام‏.‏ والقسط‏:‏ العدل، وهو عدم الزيادة والنقص وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير، ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل، والنهي عن النقص، وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن، ثم زاد ذلك تأكيداً فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ قد مرّ تفسير هذا في الأعراف، وفيه النهي عن البخس على العموم، والأشياء أعمّ مما يكال ويوزن، فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولاً أوّلياً‏.‏ وقيل‏:‏ البخس‏:‏ المكس خاصة، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ‏}‏ قد مرّ أيضاً تفسيره في البقرة، والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس، فيدخل فيه ما في السياق من نقص المكيال والميزان، وقيده بالحال وهو قوله‏:‏ ‏{‏مُفْسِدِينَ‏}‏ ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض، والمقصود به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة ‏{‏بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيراً وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس، والفساد في الأرض، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ بقية الله‏:‏ طاعته‏.‏ وقال الربيع‏:‏ وصيته‏.‏ وقال الفراء‏:‏ مراقبته، وإنما قيد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر، أو المراد بالمؤمنين هنا‏:‏ المصدّقون لشعيب ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما، أو أحفظ عليكم أعمالكم، وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يَاشُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ فماذا قالوا لشعيب‏؟‏ وقرئ ‏"‏ أصلاتك ‏"‏ بالإفراد، و‏{‏أن نترك‏}‏ في موضع نصب‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ موضعها خفض على إضمار الباء، ومرادهم بما يعبد آباؤهم ما كانوا يعبدون من الأوثان، والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به، لأن الصلوات عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه وتذليل صعوبته كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل ما لا يناسب الصواب‏:‏ أصدقتك أمرتك بهذا‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالصلاة هنا‏:‏ القراءة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها‏:‏ الدين، وقيل‏:‏ المراد بالصلوات‏:‏ أتباعه، ومنه المصلى الذي يتلو السابق؛ وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده، وقولهم‏:‏ ‏{‏أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ‏}‏ جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن، ونهيهم عن نقصهما، وعن بخس الناس، وعن العثي في الأرض، وهذه الجملة معطوفة على «ما» في ‏{‏ما يعبد آباؤنا‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، وتأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، من الأخذ والإعطاء، والزيادة والنقص‏.‏ وقرئ ‏"‏ تفعل ما تشاء ‏"‏ بالفوقية فيهما‏.‏ قال النحاس‏:‏ فتكون ‏{‏أو‏}‏ على هذه القراءة للعطف على أن الأولى، والتقدير‏:‏ أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء‏.‏ وقرئ «نفعل» بالنون و‏"‏ ما تشاء ‏"‏ بالفوقية، ومعناه‏:‏ أصلواتك تأمرك أن نفعل نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت وندع ما نشاؤه نحن وما يجري به التراضي بيننا؛ ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد‏}‏ على طريقة التهكم به، لأنهم يعتقدون أنه على خلافهما، أو يريدون إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك، وفي اعتقادك، ومعناهم‏:‏ أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما تعتقده في نفسك من الحلم والرشد‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم قالوا ذلك لا على طريقة الاستهزاء بل هو عندهم كذلك، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم‏.‏ وقد تقدّم تفسير الحلم والرشد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏ مستأنفة كالجمل التي قبلها‏.‏

والمعنى‏:‏ أخبروني إن كنت على حجة واضحة من عند ربي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه ‏{‏وَرَزَقَنِى مِنْهُ‏}‏ أي من فضله وخزائن ملكه ‏{‏رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ كثيراً واسعاً حلالاً طيباً، وقد كان عليه السلام كثير المال‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالرزق‏:‏ النبوّة‏.‏ وقيل‏:‏ الحكمة، وقيل‏:‏ العلم‏.‏ وقيل‏:‏ التوفيق، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه سياق الكلام تقديره‏:‏ أترك أمركم ونهيكم، أو أتقولون في شأني ما تقولون مما تريدون به السخرية والاستهزاء ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ وما أريد بنهيي لكم عن التطفيف والبخس أن أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه فأفعله دونكم، يقال‏:‏ خالفه إلى كذا إذا قصده وهو مولّ عنه، وخالفته عن كذا في عكس ذلك ‏{‏إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح‏}‏ أي‏:‏ ما أريد بالأمر والنهي إلا الإصلاح لكم، ودفع الفساد في دينكم ومعاملاتكم ‏{‏مَا استطعت‏}‏ ما بلغت إليه استطاعتي، وتمكنت منه طاقتي ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله‏}‏ أي‏:‏ ما صرت موفقاً هادياً نبياً مرشداً إلا بتأييد الله سبحانه، وإقداري عليه ومنحي إياه ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ أي‏:‏ أرجع في كل ما نابني من الأمور، وأفوّض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وإليه أرجع في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الإنابة‏:‏ الدعاء‏.‏ ومعناه‏:‏ وله أدعوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب إياكم، كما أصاب من كان قبلكم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لا يحملنكم شقاقي، والشقاق‏:‏ العداوة، ومنه قول الأخطل‏:‏

ألا من مبلغ عني رسولا *** فكيف وجدتم طعم الشقاق

و ‏{‏أَن يُصِيبَكُمُ‏}‏ في محل نصب على أنه مفعول ثان ليجرمنكم ‏{‏مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ‏}‏ من الغرق ‏{‏أَوْ قَوْمَ هُودٍ‏}‏ من الريح ‏{‏أَوْ قَوْمَ صالح‏}‏ من الصيحة، وقد تقدّم تفسير يجرمنكم وتفسير الشقاق ‏{‏وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم، أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم، أو ليسوا ببعيد منكم في السبب الموجب لعقوبتهم، وهو مطلق الكفر، وأفرد لفظ ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ لمثل ما سبق في ‏{‏وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏‏.‏

ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة، فقال‏:‏ ‏{‏واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ‏}‏ وقد تقدّم تفسير الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أوّل السورة، وتقدّم تفسير الرحيم، والمراد هنا‏:‏ أنه عظيم الرحمة للتائبين، والودود‏:‏ المحبّ‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ وددت الرجل أودّه ودّاً‏:‏ إذا أحببته، والودود المحب، والودّ والوُدّ والوَدّ‏:‏ المحبة، والمعنى هنا‏:‏ أنه يفعل بعباده ما يفعله من هو بليغ المودّة بمن يودّه من اللطف به، وسوق الخير إليه، ودفع الشرّ عنه‏.‏

وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة‏.‏

جملة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ياشُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ‏}‏ مستأنفة كالجمل السابقة، والمعنى‏:‏ أنك تأتينا بما لا عهد لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية، كالبعث والنشور، ولا نفقه ذلك‏:‏ أي نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة، فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازاً‏.‏ وقيل‏:‏ قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه، واحتقار الكلام مع كونه مفهوماً لديهم معلوماً عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازاً، يقال‏:‏ فقه يفقه‏:‏ إذا فهم فِقْها وفَقها، وحكى الكسائي فقهانا، ويقال‏:‏ فقه فقهاً‏:‏ إذا صار فقيهاً ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا‏}‏ أي‏:‏ لا قوّة لك تقدر بها على أن تمنع نفسك منا، وتتمكن بها من مخالفتنا‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أنه ضعيف في بدنه، قاله عليّ بن عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان مصاباً ببصره‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى‏:‏ ضعيف، أي قد ضعف بذهاب بصره كما يقال له ضرير، أي قد ضرّ بذهاب بصره‏.‏ وقيل‏:‏ الضعيف‏:‏ المهين، وهو قريب من القول الأوّل ‏{‏وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك‏}‏ رهط الرجل‏:‏ عشيرته الذين يستند إليهم، ويتقوّى بهم، ومنه الراهط لجحر اليربوع، لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والرهط يقع على الثلاثة إلى العشرة، وإنما جعلوا رهطه مانعاً من إنزال الضرر به مع كونهم في قلة، والكفار ألوف مؤلفة؛ لأنهم كانوا على دينهم، فتركوه احتراماً لهم لا خوفاً منهم، ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏ حتى نكفّ عنك لأجل عزتك عندنا، بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا، ومعنى ‏{‏لرجمناك‏}‏ لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنساناً رجموه بالحجارة وقيل‏:‏ معنى ‏{‏لرجمناك‏}‏ لشتمناك، ومنه قول الجعدي‏:‏

تراجمنا بمرّ القول حتى *** نصير كأننا فرسا رهان

ويطلق الرجم على اللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله‏}‏ مستأنفة، وإنما قال‏:‏ أعزّ عليكم من الله، ولم يقل‏:‏ أعزّ عليكم مني؛ لأن نفي العزّة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به، والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عزّ وجلّ، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعزّ عليه من الله، فاستنكر ذلك عليهم، وتعجب منه، وألزمهم ما لا مخلص لهم عنه، ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام، وفي هذا من قوّة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى، ولأمر ما سمي شعيب خطيب الأنبياء، والضمير في ‏{‏واتخذتموه‏}‏ راجع إلى الله سبحانه‏.‏ والمعنى‏:‏ واتخذتم الله عزّ وجلّ بسبب عدم اعتدادكم بنبيه الذي أرسله إليكم ‏{‏وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً‏}‏ أي‏:‏ منبوذاً وراء الظهر لا تبالون به‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ واتخذتم أمر الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم، وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم، يقال‏:‏ جعلت أمره بظهر‏:‏ إذا قصرت فيه، و‏{‏ظِهْرِيّاً‏}‏ منسوب إلى الظهر، والكسر لتغيير النسب ‏{‏إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم‏.‏

‏{‏وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم، وعدم تأثير الموعظة فيهم، توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم، يقال‏:‏ مكن مكانة‏:‏ إذا تمكن أبلغ تمكن، وأخبرهم أنه عامل على حسب ما يمكنه ويقدّر الله له، ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ عاقبة ما أنتم فيه من عبادة غير الله والإضرار بعباده، وقد تقدّم مثله في الأنعام ‏{‏مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ «من» في محل نصب ب ‏{‏تعلمون‏}‏‏:‏ أي‏:‏ سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذلّ والفضيحة والعار ‏{‏وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ‏}‏ معطوف على ‏{‏من يأتيه‏}‏؛ والمعنى‏:‏ ستعلمون من هو المعذب ومن هو الكاذب‏؟‏ وفيه تعريض بكذبهم في قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن «من» مبتدأ، وما بعدها صلتها، والخبر محذوف، والتقدير‏:‏ من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره‏.‏ قال الفراء‏:‏ إنما جاء بهو في ‏{‏مَنْ هُوَ كاذب‏}‏ لأنهم لا يقولون من قائم، إنما يقولون‏:‏ من قام، ومن يقوم، ومن القائم، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويدل على خلاف هذا قول الشاعر‏:‏

من رسولي إلى الثريا فإني *** ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب

‏{‏وارتقبوا إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا ‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ أي‏:‏ لما جاء عذابنا، أو أمرنا بعذابهم، نجينا شعيباً وأتباعه الذين آمنوا به ‏{‏بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ لهم بسبب إيمانهم، أو برحمة منا لهم‏:‏ وهي هدايتهم للإيمان ‏{‏وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ غيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه، وظلموا أنفسهم بالتصميم على الكفر ‏{‏الصيحة‏}‏ التي صاح بهم جبرائيل حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم، وفي الأعراف ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 78‏]‏ وكذا في العنكبوت‏.‏ وقد قدّمنا أن الرجفة‏:‏ الزلزلة، وأنها تكون تابعة للصيحة لتموّج الهوى المفضي إليها ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ أي‏:‏ ميتين، وقد تقدّم تفسيره وتفسير ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ قريباً، وكذا تفسير ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ‏}‏ وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ «كما بعدت ثمود» بضم العين‏.‏ قال المهدوي‏:‏ من ضم العين من «بعدت» فهي لغة تستعمل في الخير والشرّ، و«بعدت» بالكسر على قراءة الجمهور تستعمل في الشرّ خاصة، وهي هنا بمعنى اللعنة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ‏}‏ قال‏:‏ رخص السعر ‏{‏وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ‏}‏ قال‏:‏ غلاء السعر، وأخرج ابن جرير، عنه ‏{‏بَقِيَّتُ الله‏}‏ قال‏:‏ رزق الله‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة ‏{‏بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ حظكم من ربكم خير لكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال‏:‏ طاعة الله‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الأعمش في قوله‏:‏ ‏{‏أصلواتك تَأْمُرُكَ‏}‏ قال‏:‏ أقراءتك‏.‏ وأخرج ابن عساكر، عن الأحنف‏:‏ أن شعيباً كان أكثر الأنبياء صلاة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ‏}‏ قال‏:‏ نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم فقالوا‏:‏ إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا أحرقناها، وإن شئنا طرحناها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن محمد بن كعب نحوه‏.‏ وأخرجا عن زيد بن أسلم نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وعبد بن حميد، عن سعيد بن المسيب، نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد‏}‏ قال‏:‏ يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال‏:‏ استهزاء به‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك، في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ قال‏:‏ الحلال‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ‏}‏ قال‏:‏ يقول لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركبه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ قال‏:‏ إليه أرجع‏.‏ وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن عليّ، قال‏:‏ «قلت‏:‏ يا رسول، الله أوصني، قال‏:‏ ‏"‏ قل الله ربي ثم استقم ‏"‏، قلت‏:‏ ربي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، قال‏:‏ ‏"‏ ليهنك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً ‏"‏ وفي إسناده محمد بن يوسف الكديمي‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة ‏{‏لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى‏}‏ لا يحملنكم فراقي‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، قال‏:‏ شقاقي عداوتي‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ قال‏:‏ لا تحملنكم عداوتي‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ إنما كانوا حديثي عهد قريب بعد نوح وثمود‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، وابن عساكر، عن سعيد بن جبير ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا‏}‏ قال‏:‏ كان أعمى، وإنما عمي من بكائه من حبّ الله عزّ وجلّ‏.‏

وأخرج الواحدي، وابن عساكر، عن شدّاد بن أوس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بكى شعيب عليه السلام من حبّ الله حتى عمي» وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والخطيب، وابن عساكر من طرق، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا‏}‏ قال‏:‏ كان ضرير البصر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن أبي صالح، مثله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن سفيان في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا‏}‏ قال‏:‏ كان أعمى، وكان يقال له خطيب الأنبياء‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، قال‏:‏ معناه إنما أنت واحد‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا‏}‏ قال‏:‏ كان مكفوفاً، فنسبوه إلى الضعف ‏{‏وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك‏}‏ قال عليّ‏:‏ فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً‏}‏ قال‏:‏ نبذتم أمره‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال في الآية‏:‏ لا تخافونه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال‏:‏ تهاونتم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 108‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

المراد بالآيات‏:‏ التوراة، والسلطان المبين‏:‏ المعجزات‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآيات‏:‏ هي التسع المذكورة في غير هذا الموضع، والسلطان المبين‏:‏ العصا، وهي وإن كانت من التسع لكنها لما كانت أبهرها أفردت بالذكر؛ وقيل‏:‏ المراد بالآيات‏:‏ ما يفيد الظنّ، والسلطان المبين ما يفيد القطع بما جاء به موسى؛ وقيل‏:‏ هما جميعاً عبارة عن شيء واحد‏:‏ أي أرسلناه بما يجمع وصف كونه آية، وكونه سلطاناً مبيناً؛ وقيل إن السلطان المبين‏:‏ ما أورده موسى على فرعون في المحاورة بينهما ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه‏}‏ أي‏:‏ أرسلناه بذلك إلى هؤلاء‏.‏ وقد تقدّم أن الملأ أشراف القوم، وإنما خصهم بالذكر دون سائر القوم، لأنهم أتباع لهم في الإصدار والإيراد، وخصّ هؤلاء الملأ دون فرعون بقوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي‏:‏ أمره لهم بالكفر، لأن حال فرعون في الكفر أمر واضح، إذ كفر قومه من الأشراف وغيرهم إنما هو مستند إلى كفره، ويجوز أن يراد بأمر فرعون شأنه وطريقته، فيعمّ الكفر وغيره ‏{‏وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ ليس فيه رشد قط، بل هو‏:‏ غيّ وضلال، والرشيد بمعنى المرشد، والإسناد مجازي، أو بمعنى ذي رشد، وفيه تعريض بأن الرشد في أمر موسى ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة‏}‏ من قدمه بمعنى تقدّمه‏:‏ أي يصير متقدّماً لهم يوم القيامة سابقاً لهم إلى عذاب النار، كما كان يتقدّمهم في الدنيا ‏{‏فَأَوْرَدَهُمُ النار‏}‏ أي‏:‏ إنه لا يزال متقدّماً لهم، وهم يتبعونه حتى يوردهم النار، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، ثم ذمّ الورد الذي أوردهم إليه، فقال‏:‏ ‏{‏وَبِئْسَ الورد المورود‏}‏ لأن الوارد إلى الماء الذي يقول له الورد، إنما يرده ليطفئ حرّ العطش، ويذهب ظمأه، والنار على ضدّ ذلك‏.‏

ثم ذمهم بعد ذمّ المكان الذي يردونه، فقال‏:‏ ‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِى هذه لَعْنَةً‏}‏ أي‏:‏ أتبع قوم فرعون مطلقاً، أو الملأ خاصة، أو هم وفرعون في هذه الدنيا لعنة عظيمة‏:‏ أي طرداً وإبعاداً ‏{‏وَيَوْمَ القيامة‏}‏ أي‏:‏ وأتبعوا لعنة يوم القيامة، يلعنهم أهل المحشر جميعاً، ثم إنه جعل اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم، فقال‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الرفد المرفود‏}‏‏.‏ قال الكسائي وأبو عبيدة‏:‏ رفدته أرفده رفداً‏:‏ أمنته وأعطيته، واسم العطية الرفد‏:‏ أي بئس العطاء، والإعانة ما أعطوهم إياه، وأعانوهم به، والمخصوص بالذمّ محذوف‏:‏ أي رفدهم، وهو‏:‏ اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة، كأنها لعنة بعد لعنة تمدّ الأخرى الأولى وتؤبدها‏.‏ وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد بالفتح‏:‏ القدح، وبالكسر‏:‏ ما فيه من الشراب فكأنه ذمّ ما يستقونه في النار، وهذا أنسب بالمقام‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرفد‏:‏ الزيادة‏:‏ أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق، وهو الزيادة قاله الكلبي‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك مِنْ أَنْبَاء القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من أخبار الأمم السالفة، وما فعلوه مع أنبيائهم، أي هو مقصوص عليك خبر بعد خبر، وقد تقدّم تحقيق معنى القصص، والضمير في ‏{‏منها‏}‏ عائد إلى ‏{‏القرى‏}‏‏:‏ أي من القرى قائم، ومنها حصيد، والقائم‏:‏ ما كان قائماً على عروشه، والحصيد‏:‏ ما لا أثر له‏.‏ وقيل القائم‏:‏ العامر، والحصيد‏:‏ الخراب‏.‏ وقيل‏:‏ القائم‏:‏ القرى الخاوية على عروشها، والحصيد‏:‏ المستأصل بمعنى محصود، شبه القرى بالزرع القائم على ساقه والمقطوع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

والناس في قسم المنية بينهم *** كالزرع منه قائم وحصيد

‏{‏وَمَا ظلمناهم‏}‏ بما فعلنا بهم من العذاب ‏{‏ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بالكفر والمعاصي ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ‏}‏ أي‏:‏ فما دفعت عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئاً من العذاب ‏{‏لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ لما جاء عذابه ‏{‏وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏‏:‏ الهلاك والخسران‏:‏ أي ما زادتهم الأصنام التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع ‏{‏وكذلك أَخْذُ رَبّكَ‏}‏ قرأ الجحدري وطلحة بن مصرف «أخذ» على أنه فعل‏.‏ وقرأ غيرهما ‏{‏أخذ‏}‏ على المصدر ‏{‏إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة‏}‏ أي‏:‏ أهلها وهم ظالمون ‏{‏إِنَّ أَخْذَهُ‏}‏ أي‏:‏ عقوبته للكافرين ‏{‏أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ موجع غليظ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ في أخذ الله سبحانه لأهل القرى، أو في القصص الذي قصه على رسوله لعبرة وموعظة ‏{‏لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة‏}‏ لأنهم الذين يعتبرون بالعبر، ويتعظون بالمواعظ، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس‏}‏ إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة أن يجمع فيه الناس للمحاسبة والمجازاة ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ أي‏:‏ يشهده أهل المحشر، أو مشهود فيه الخلائق، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول ‏{‏وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ‏}‏ أي‏:‏ وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء أجل معدود معلوم بالعدد، قد عيّن الله سبحانه وقوع الجزاء بعده ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ‏}‏ قرأ أهل المدينة وأبو عمرو، والكسائي بإثبات الياء في الدرج، حذفها في الوقف‏.‏ وقرأ أبيّ، وابن مسعود بإثباتها وصلاً ووقفاً‏.‏ وقرأ الأعمش بحذفها فيهما، ووجه حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي‏:‏ أن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذفت الياء كما تحذف الضمة‏.‏ ووجه قراءة من قرأ بحذف الياء مع الوصل‏:‏ أنهم رأوا رسم المصحف كذلك‏.‏ وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول‏:‏ لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسر، وأنشد الفراء في حذف الياء‏:‏

كفاك كف ما تليق درهما *** جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما

قال الزجاج‏:‏ والأجود في النحو إثبات الياء، والمعنى‏:‏ حين يأتي يوم القيامة ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ‏}‏ أي‏:‏ لا تتكلم حذفت إحدى التاءين تخفيفاً‏:‏ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بما أذن لها من الكلام‏.‏

وقيل‏:‏ لا تكلم بحجة ولا شفاعة ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ سبحانه لها في التكلم بذلك، وقد جمع بين هذا وبين قوله‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35، 36‏]‏ باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة‏.‏ وقد تكرّر مثل هذا الجمع في مواضع ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ من الأنفس شقيّ، ومنهم سعيد‏.‏ فالشقيّ‏:‏ من كتبت عليه الشقاوة، والسعيد‏:‏ من كتبت له السعادة، وتقديم الشقيّ على السعيد لأن المقام مقام تحذير ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ أي‏:‏ فأما الذين سبقت لهم الشقاوة، فمستقرّون في النار لهم فيها زفير وشهيق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الزفير من شدّة الأنين، وهو المرتفع جداً‏.‏ قال‏:‏ وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين‏:‏ أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير، والشهيق‏:‏ بمنزلة آخره‏.‏ وقيل الزفير‏:‏ الصوت الشديد، والشهيق‏:‏ الصوت الضعيف‏.‏ وقيل الزفير‏:‏ إخراج النفس، والشهيق‏:‏ ردّ النفس‏.‏ وقيل‏:‏ الزفير من الصدر، والشهيق‏:‏ من الحلق‏.‏ وقيل الزفير‏:‏ ترديد النفس من شدّة الخوف، والشهيق‏:‏ النفس الطويل الممتد، والجملة إما مستأنفة كأنه قيل‏:‏ ما حالهم فيها‏؟‏ أو في محل نصب على الحال ‏{‏خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ مدّة دوامهما‏.‏

وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأييد عذاب الكفار في النار، وعدم انقطاعه عنهم، وثبت أيضاً أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا، فقالت طائفة‏:‏ إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء، قالوا‏:‏ هو دائم ما دامت السموات والأرض، ومنه قولهم‏:‏ لا آتيك ما جنّ ليل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام ونحو ذلك‏.‏ فيكون معنى الآية‏:‏ أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد‏:‏ سموات الآخرة وأرضها، فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا، وهي دائمة بدوام دار الآخرة، وأيضاً لا بدّ لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم، وهما أرض وسماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ أنه من قوله‏:‏ ‏{‏فَفِى النار‏}‏ كأنه قال‏:‏ إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك‏.‏ روي هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري‏.‏ الثاني‏:‏ أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين، وأنهم يخرجون بعد مدّة من النار، وعلى هذا يكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ عاماً في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من ‏{‏خالدين‏}‏، وتكون «ما» بمعنى من، وبهذا قال قتادة، والضحاك، وأبو سنان، وغيرهم‏.‏

وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد، فكان ذلك مخصصاً لكل عموم‏.‏ الثالث‏:‏ أن الاستثناء من الزفير والشهيق‏:‏ أي لهم فيها زفير وشهيق ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق، قاله ابن الأنباري‏.‏ الرابع أن معنى الاستثناء‏:‏ أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض، لا يموتون إلا ما شاء ربك، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا، ثم يجدّد الله خلقهم، روي ذلك عن ابن مسعود‏.‏ الخامس‏:‏ أن ‏{‏إلا‏}‏ بمعنى سوى، والمعنى‏:‏ ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود، كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج‏.‏ السادس‏:‏ ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك‏:‏ والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا لمدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزماً؛ وقد حكي هذا القول الزجاج أيضاً‏.‏ السابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبوركم وللحساب، حكاه الزجاج أيضاً‏.‏ الثامن‏:‏ أن المعنى‏:‏ خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم؛ حكاه أيضاً الزجاج، واختاره الحكيم الترمذي‏.‏ التاسع‏:‏ أن ‏{‏إلا‏}‏ بمعنى الواو، قاله الفراء؛ والمعنى‏:‏ وما شاء ربك من الزيادة، قال مكي‏:‏ وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو‏.‏ العاشر‏:‏ أن ‏{‏إلا‏}‏ بمعنى الكاف، والتقدير‏:‏ كما شاء ربك، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏ أي‏:‏ كما قد سلف‏.‏ الحادي عشر‏:‏ أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام، فهو على حدّ قوله‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ روى نحو هذا عن أبي عبيد، وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم‏.‏ وقد نوقش بعضها بمناقشات، ودفعت بدفوعات‏.‏ وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض‏}‏ قرأ الأعمش، وحفص، وحمزة، والكسائي ‏{‏سعدوا‏}‏ بضم السين، وقرأ الباقون بفتح السين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ قال سيبويه‏:‏ لا يقال‏:‏ سعد فلان، كما لا يقال‏:‏ شقي فلان؛ لكونه مما لا يتعدى، قال النحاس‏:‏ ورأيت عليّ بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية، وهذا لحن لا يجوز، ومعنى الآية كما مرّ في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قد عرف من الأقوال المتقدّمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه ‏{‏عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ أي‏:‏ يعطيهم الله عطاء غير مجذوذ، والمجذوذ‏:‏ المقطوع، من جذه يجذه إذا قطعه، والمعنى‏:‏ أنه ممتدّ إلى غير نهاية‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة‏}‏ يقول‏:‏ أضلهم فأوردهم النار‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال‏:‏ فرعون يمضي بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْرَدَهُمُ النار‏}‏ قال‏:‏ الورود‏:‏ الدخول‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الرفد المرفود‏}‏ قال‏:‏ لعنة الدنيا والآخرة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه ‏{‏مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ قرى عامرة وقرى خامدة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة‏:‏ ‏{‏منها قائم‏}‏ يرى مكانه، و‏{‏حصيد‏}‏ لا يرى له أثر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جريج‏:‏ ‏{‏منها قائم‏}‏ خاو على عروشه، و‏{‏حصيد‏}‏ ملصق بالأرض‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن أبي عاصم ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ‏}‏ قال‏:‏ ما نفعت‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عمر، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ هلكة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن زيد قال‏:‏ تخسير‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة معناه‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة‏}‏ يقول‏:‏ إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ قال‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، مثله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ‏}‏ قال‏:‏ ذلك اليوم‏.‏ وأخرج الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب، قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه‏؟‏ قال‏:‏ «بل على شيء قد فرغ منه، وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كلّ ميسر لما خلق له» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ هاتان من المخبآت، قول الله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ و

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ أما قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ فهم قوم من أهل الكتاب من أهل هذه القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم، ثم يأذن في الشفاعة لهم، فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة، فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ حين أذن في الشفاعة لهم، وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة وهم هم ‏{‏وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ‏}‏ يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه ‏{‏فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ الذين كانوا في النار‏.‏

وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن قتادة أنه تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ فقال‏:‏ حدّثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء‏:‏ إن من دخلها بقي فيها» وأخرج ابن مردويه، عن جابر، قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن خالد بن معدان في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ إنها في التوحيد من أهل القبلة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله، أو عن أبي سعيد الخدري، أو رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ هذه الآية قاضية على القرآن كله، يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي عن أبي نضرة، قال‏:‏ ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏مَا دَامَتِ السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ لكل جنة سماء وأرض‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج البيهقي في البعث والنشور، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار، وأن يخلد هؤلاء في الجنة‏.‏

وأخرج ابن جرير، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ استثنى الله من النار أن تأكلهم‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في الآية قال‏:‏ فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 168‏]‏ إلى آخر الآية، فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها، وأوجب لهم خلود الأبد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ظِلاًّ ظَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 57‏]‏ فأوجب لهم خلود الأبد‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن الحسن، قال‏:‏ قال عمر‏:‏ لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه‏.‏ وأخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال‏:‏ سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن إبراهيم، قال‏:‏ ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية ‏{‏خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ليأتينّ عليها زمان تخفق أبوابها‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال‏:‏ جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ الله أعلم بتثنيته على ما وقعت‏.‏ وقد روي عن جماعة من السلف مثل ما ذكره عمر، وأبو هريرة، وابن مسعود، كابن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر، وأبي سعيد من الصحابة، وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهما من التابعين‏.‏ وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي، وإسناده ضعيف‏.‏ ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة، وفي السكوت عنه غنى، فقال‏:‏ ولا يخدعنك قول المجبرة إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو‏:‏ ليأتينّ على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد‏.‏ ثم قال‏:‏ وأقول‏:‏ ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث‏.‏ انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ أما الطعن على من قال بخروج أهل الكبائر من النار، فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة، وكما صحّ عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر؛ فمالك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته، وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، وأيّ مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة، كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف‏.‏

وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم، ويسجل بافترائهم، فلا مناداة ولا مخالفة، وأيّ‏:‏ مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة، فالاستثناء الأوّل‏:‏ يحمل على معنى ‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ من خروج العصاة من هذه الأمة من النار، والاستثناء الثاني‏:‏ يحمل على معنى ‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم، وذلك لتأخر خلودهم إليها مقدار المدّة التي لبثوا فيها في النار‏.‏ وقد قال بهذا من أهل العلم من قدّمنا ذكره، وبه قال ابن عباس حبر الأمة‏.‏ وأما الطعن على صاحب رسول الله، وحافظ سنته، وعابد الصحابة، عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فإلى أين يا محمود، أتدري ما صنعت، وفي أيّ واد وقعت، وعلى أي جنب سقطت‏؟‏ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان، وتتناول نجوم السماء بيديك القصيرة، ورجلك العرجاء، أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف، والتكلم بما لا تدري، فيالله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية، والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه، ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 115‏]‏

‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

لما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة، وبيان حال السعداء والأشقياء، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي له عن الامتراء في أن ما يعبدونه غير نافع ولا ضار، ولا تأثير له في شيء‏.‏ وحذف النون في «لا تك» لكثرة الاستعمال، والمرية‏:‏ الشك‏.‏ والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء‏.‏ وقيل‏:‏ لا تك في شك من سوء عاقبتهم‏.‏ ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وهذا النهي له صلى الله عليه وسلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك‏.‏ فإنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك أبداً‏.‏ ثم بيّن له سبحانه أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم، أو أن عبادتهم كعبادة آبائهم من قبل، وفي هذا استثناء تعليل للنهي عن الشك‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره‏.‏ فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك، فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك، وجاء بالمضارع في ‏{‏كما يعبد آباؤهم‏}‏ لاستحضار الصورة‏.‏ ثم بيّن له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ من العذاب كما وفينا آباءهم، لا ينقص من ذلك شيء، وانتصاب غير الحال، والتوفية لا تستلزم عدم النقص، فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص، كما يجوز أن يوفى وهو كامل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد نصيبهم من الرزق، وقيل‏:‏ ما هو أعمّ من الخير والشرّ‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ أي‏:‏ التوراة ‏{‏فاختلف فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في شأنه وتفاصيل أحكامه، فآمن به قوم، وكفر به آخرون، وعمل بأحكامه قوم، وترك العمل ببعضها آخرون، فلا يضق صدرك يا محمد بما وقع من هؤلاء في القرآن ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لولا أن الله سبحانه قد حكم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح لقضى بينهم‏:‏ أي بين قومك، أو بين قوم موسى فيما كانوا فيه مختلفين، فأثيب المحقّ وعذب المبطل؛ أو الكلمة هي‏:‏ أن رحمته سبحانه سبقت غضبه، فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الكلمة هي أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال، وهذا من جملة التسلية له صلى الله عليه وسلم، ثم وصفهم بأنهم في شك من الكتاب فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ من القرآن، إن حمل على قوم محمد صلى الله عليه وسلم، أو من التوراة، إن حمل على قوم موسى عليه السلام، والمريب‏:‏ الموقع في الريبة‏.‏

ثم جمع الأوّلين والآخرين في حكم توفية العذاب لهم، أو هو والثواب فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر «وإن» بالتخفيف على أنها إن المخففة من الثقيلة وعملت في ‏{‏كلا‏}‏ النصب، وقد جوّز عملها الخليل وسيبويه، وقد جوّز البصريون تخفيف ‏"‏ إن ‏"‏ مع إعمالها، وأنكر ذلك الكسائي وقال‏:‏ ما أدري على أيّ شيء قرئ ‏{‏وإن كلا‏}‏‏؟‏ وزعم الفراء أن انتصاب ‏{‏كلا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ليوفينهم‏}‏، والتقدير‏:‏ وإن ليوفينهم كلا، وأنكر ذلك عليه جميع النحويين‏.‏

وقرأ الباقون بتشديد ‏{‏إن‏}‏ ونصبوا بها ‏{‏كلا‏}‏‏.‏ وعلى كلا القراءتين فالتنوين في ‏{‏كلا‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏:‏ أي وإن كل المختلفين‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر ‏{‏لما‏}‏ بالتشديد، وخففها الباقون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لام ‏{‏لما‏}‏ لام إن، و‏"‏ ما ‏"‏ زائدة مؤكدة، وقال الفراء‏:‏ ‏"‏ ما ‏"‏ بمعنى من كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 72‏]‏ أي‏:‏ وإن كلاً لمن ليوفينهم‏!‏ وقيل‏:‏ ليست بزائدة بل هي اسم دخلت عليها لام التوكيد، والتقدير‏:‏ وإن كلاً لمن خلق‏.‏ قيل‏:‏ وهي مركبة، وأصلها لمن ما، فقلبت النون ميماً واجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت الوسطى حكي ذلك النحاس عن النحويين‏.‏ وزيف الزجاج هذا وقال‏:‏ ‏"‏ من ‏"‏ اسم على حرفين فلا يجوز حذف النون‏.‏ وذهب بعض النحويين إلى أن ‏"‏ لما ‏"‏ هذه بمعنى إلا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ وقال المازني‏:‏ الأصل لما المخففة ثم ثقلت‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا خطأ، إنما يخفف المثقل ولا يثقل المخفف‏.‏ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ يجوز أن يكون التشديد من قولهم‏:‏ لممت الشيء ألمه‏:‏ إذا جمعته، ثم بنى منه فعلى كما قرئ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 44‏]‏ وأحسن هذه الأقوال أنها بمعنى إلا الاستثنائية‏.‏ وقد روي ذلك عن الخليل، وسيبويه، وجميع البصريين، ورجحه الزجاج ويؤيده أن في حرف أبيّ «وإن كلا إلا ليوفينهم» كما حكاه أبو حاتم عنه‏.‏ وقرئ بالتنوين‏:‏ أي جميعاً‏.‏ وقرأ الأعمش «وإن كل لما» بتخفيف إن ورفع كل وتشديد لما، وتكون إن على هذه القراءة نافية ‏{‏إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ أيها المختلفون ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ لا يخفى عليه منه شيء، والجملة تعليل لما قبلها‏.‏

ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ أي‏:‏ كما أمرك الله، فيدخل في ذلك جميع ما أمره به وجميع ما نهاه عنه، لأنه قد أمره بتجنب ما نهاه عنه، كما أمره بفعل ما تعبده بفعله، وأمته أسوته في ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏ أي‏:‏ رجع من الكفر إلى الإسلام، وشاركك في الإيمان، وهو معطوف على الضمير في ‏{‏فاستقم‏}‏؛ لأن الفصل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقام التأكيد‏:‏ أي‏:‏ وليستقم من تاب معك، وما أعظم موقع هذه الآية وأشدّ أمرها، فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهرة، والذوات المقدسة، ولهذا يقول المصطفى‏:‏ «شيبتني هود» كما تقدّم ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ الطغيان‏:‏ مجاوزة الحد، لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بين أن الغلوّ في العبادة، والإفراط في الطاعة على وجه تخرج به عن الحد الذي حدّه، والمقدار الذي قدّره ممنوع منه منهيّ عنه، وذلك كمن يصوم ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام، ويترك الحلال الذي أذن الله به ورغب فيه، ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه‏:‏

«أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأنكح النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته تغليباً لحالهم على حاله، أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة ‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ يجازيكم على حسب ما تستحقون، والجملة تعليل لما قبلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏، قرأ الجمهور بفتح الكاف، وقرأ طلحة بن مصرّف، وقتادة، وغيرهما «تركنوا» بضم الكاف‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهي لغة تميم وقيس، قال أبو عمرو‏:‏ وقراءة الجمهور هي لغة أهل الحجاز، قال‏:‏ ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة بضم التاء وفتح الكاف على البناء للمفعول من أركنه‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ ركن إليه يركن بالضم‏.‏ وحكى أبو زيد‏:‏ ركن إليه بالكسر، يركن ركوناً فيهما‏:‏ أي مال إليه وسكن قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ وأما ما حكى أبو زيد ركن يركن بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين‏.‏ انتهى‏.‏ وقال في شمس العلوم‏:‏ الركون‏:‏ السكون‏.‏ يقال‏:‏ ركن إليه ركوناً، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ انتهى‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ ركن إليه، كنصر وعلم، ومنع ركوناً‏:‏ مال وسكن، انتهى‏.‏ فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما قيده به صاحب الكشاف حيث قال‏:‏ فإن الركون هو الميل اليسير، وهكذا فسره المفسرون، بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف؛ ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيوداً لم يذكرها أئمة اللغة‏.‏ قال القرطبي في تفسيره‏:‏ الركون حقيقته الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به‏.‏ ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخصّ من معناه اللغوي‏.‏ فروي عن قتادة، وعكرمة في تفسير الآية أن معناها‏:‏ لا تودوهم ولا تطيعوهم‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية‏:‏ الركون هنا‏:‏ الإدهان، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ معناه لا ترضوا أعمالهم‏.‏

وقد اختلف أيضاً الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة‏؟‏ فقيل خاصة، وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين، وأنهم المرادون بالذين ظلموا، وقد روي ذلك عن ابن عباس‏.‏

وقيل‏:‏ إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون، لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏ فإن قلت‏:‏ وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح‏:‏ «أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة» وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة، وما لم يظهر منهم الكفر البواح، وما لم يأمروا بمعصية الله‏.‏ وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح، فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله؛ ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم‏.‏ والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله؛ ومن جملة ما يأمرون به‏:‏ الجهاد، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم، وإقامة الحدود على من وجبت عليه‏.‏ وبالجملة، فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله، ولا بدّ في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم، ونحو ذلك مما لا بدّ منه، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة، لتواتر الأدلة الواردة به، بل قد ورد به الكتاب العزيز‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة، وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا كما في بعض الأحاديث الصحيحة‏:‏ «أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم» بل ورد الأمر بطاعة السلطان، وبالغ في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال‏:‏ «وإن أخذ مالك وضرب ظهرك» فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون، فمجرّد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهراً وباطناً فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر، لأمر يقتضي ذلك شرعاً كالطاعة، أو للتقية ومخافة الضرر منهم، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن، ولا محبة، ولا رضا بأفعالهم‏.‏ قلت‏:‏ أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله، فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها، مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدّمنا الإشارة إليها، ولا شك في هذا ولا ريب، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله، كالمناصب الدينية، ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه، فذلك واجب عليه فضلاً عن أن يقال جائز له‏.‏

وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين، والأمراء جمعاً بين الأدلة، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به، كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة، وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، مع كراهة ما هم عليه من الظلم، وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا، فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية؛ وبالجملة فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم، فعليه أن يزن أقواله وأفعاله، وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، فإن زاغ عن ذلك‏:‏ «فعلى نفسها براقش تجني» ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته، فهو الأولى له، والأليق به‏.‏ يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم، وقوّنا على ذلك ويسره لنا، وأعنا عليه‏.‏ قال القرطبي في تفسيره‏:‏ وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار‏.‏ انتهى‏.‏ وقال النيسابوري في تفسيره‏:‏ قال المحققون‏:‏ الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة‏.‏ أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب؛ فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخلة في الركون‏.‏ قال‏:‏ وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية ‏{‏أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَتَمَسَّكُمُ النار‏}‏ بسبب الركون إليهم، وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار، أو كالنار، ومصاحبة النار توجب لا محالة مسّ النار، وجملة‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ في محل نصب على الحال من قوله‏:‏ فتمسكم النار‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم، وينقذكم منها ‏{‏ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ من جهة الله سبحانه، إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب الركون الذي نهيتم عنه، فلم تنتهوا عناداً وتمرّداً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار‏}‏ لما ذكر الله سبحانه الاستقامة خصّ من أنواعها إقامة الصلاة لكونها رأس الإيمان، وانتصاب ‏{‏طرفي النهار‏}‏ على الظرفية، والمراد‏:‏ صلاة الغداة والعشيّ، وهما‏:‏ الفجر والعصر‏.‏

وقيل‏:‏ الظهر موضع العصر، وقيل‏:‏ الطرفان الصبح والمغرب‏.‏ وقيل‏:‏ هما الظهر والعصر‏.‏ ورجح ابن جرير أنهما الصبح والمغرب، قال‏:‏ والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدلّ على أن الطرف الآخر المغرب ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ أي‏:‏ في زلف من الليل، والزلف‏:‏ الساعات القريبة بعضها من بعض، ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة، وقرأ ابن القعقاع وأبو إسحاق وغيرهما «زلفاً» بضم اللام جمع زليف، ويجوز أن يكون واحده زلفة‏.‏ وقرأ ابن محيصن بإسكان اللام‏.‏ وقرأ مجاهد‏:‏ «زلفى» مثل فعلى‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «زلفاً» بفتح اللام كغرفة وغرف‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الزلف الساعات واحدتها زلفة‏.‏ وقال قوم‏:‏ الزلفة أوّل ساعة من الليل بعد مغيب الشمس‏.‏ قال الأخفش‏:‏ معنى ‏{‏زلفاً من الليل‏}‏‏:‏ صلاة الليل ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ أي‏:‏ إن الحسنات على العموم، ومن جملتها بل عمادها الصلاة يذهبن السيئات على العموم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالسيئات‏:‏ الصغائر، ومعنى ‏{‏يذهبن السيئات‏}‏‏:‏ يكفرنها حتى كأنها لم تكن، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاستقم‏}‏ وما بعده‏.‏ وقيل‏:‏ إلى القرآن ذكرى للذاكرين أي‏:‏ موعظة للمتعظين ‏{‏واصبر‏}‏ على ما أمرت به من الاستقامة، وعدم الطغيان، والركون إلى الذين ظلموا‏!‏ وقيل‏:‏ إن المراد الصبر على ما أمر به دون ما نهى عنه، لأنه لا مشقة في اجتنابه، وفيه نظر، فإن المشقة في اجتناب المنهيّ عنه كائنة، وعلى فرض كونها دون مشقة امتثال الأمر، فذلك لا يخرجها عن مطلق المشقة ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ أي‏:‏ يوفيهم أجورهم ولا يضيع منها شيئاً فلا يهمله ولا يبخسه بنقص‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ‏}‏ قال‏:‏ ما قدّر لهم من خير أو شرّ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في الآية قال‏:‏ من العذاب‏.‏ وأخرجا عن أبي العالية‏.‏ قال من الرزق‏.‏ وأخرجا أيضاً عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ قال‏:‏ أمر الله نبيه أن يستقيم على أمره، ولا يطغى في نعمته، وأخرج أبو الشيخ، عن سفيان، في الآية قال‏:‏ استقم على القرآن‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ قال‏:‏ شمروا شمروا فما رؤي ضاحكاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج ‏{‏وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏ قال‏:‏ آمن‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن العلاء بن عبد الله بن بدر، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ قال‏:‏ لم يرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى الذين يجيئون من بعدهم‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ يقول‏:‏ لا تظلموا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، قال‏:‏ الطغيان‏:‏ خلاف أمره وارتكاب معصيته‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ قال‏:‏ يعني الركون إلى الشرك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ‏}‏ قال‏:‏ لا تميلوا‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، أيضاً قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ‏}‏ لا تدهنوا‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة، في الآية قال‏:‏ أن تطيعوهم أو تودّوهم أو تصطنعوهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار‏}‏ قال‏:‏ صلاة المغرب والغداة ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ قال‏:‏ صلاة العتمة‏.‏ وأخرجا عن الحسن قال‏:‏ الفجر والعصر ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ قال‏:‏ هما زلفتان‏:‏ صلاة المغرب وصلاة العشاء‏.‏ قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هما زلفتا الليل»‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في الطرفين قال‏:‏ صلاة الفجر، وصلاتي العشيّ‏:‏ يعني الظهر والعصر ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ قال‏:‏ المغرب والعشاء‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ قال‏:‏ ساعة بعد ساعة، يعني صلاة العشاء الآخرة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس أنه كان يستحبّ تأخير العشاء، ويقرأ ‏{‏زلفاً من الليل‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، ومحمد بن نصر، وابن مردويه، عن ابن مسعود، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ قال‏:‏ الصلوات الخمس‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، ومحمد بن نصر، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ قال‏:‏ الصلوات الخمس، والباقيات الصالحات‏:‏ الصلوات الخمس‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم، وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود‏:‏ أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزلت عليه‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ فقال الرجل‏:‏ يا رسول الله ألي هذه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ هي لمن عمل بها من أمتي ‏"‏ وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود وغيرهم عن أبي أمامة‏:‏ أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، أقم فيّ حدّ الله مرّة أو مرّتين، فأعرض عنه، ثم أقيمت الصلاة، فلما فرغ قال‏:‏ ‏"‏ أين الرجل‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ أنا ذا، قال ‏"‏ أتممت الوضوء وصليت معنا آنفاً‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد ‏"‏، وأنزل الله حينئذ على رسوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار‏}‏‏.‏ وفي الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة، ووردت أحاديث أيضاً ‏"‏ أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهنّ ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ‏}‏ قال‏:‏ هم الذين يذكرون الله في السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء، والعافية والبلاء‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج قال‏:‏ لما نزع الذي قبل المرأة تذكر، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ذكرى لِلذكِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 123‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

هذا عود إلى أحوال الأمم الخالية لبيان أن سبب حلول عذاب الاستئصال بهم أنه ما كان فيهم من ينهى عن الفساد ويأمر بالرشاد، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا‏}‏ أي‏:‏ فهلا ‏{‏كَانَ مِنَ القرون‏}‏ الكائنة ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ‏}‏ من الرأي والعقل والدين ‏{‏يَنْهَوْنَ‏}‏ قومهم ‏{‏عَنِ الفساد فِى الأرض‏}‏ ويمنعونهم من ذلك، لكونهم ممن جمع الله له بين جودة العقل، وقوّة الدين، وفي هذا من التوبيخ للكفار ما لا يخفى‏.‏ والبقية في الأصل لما يستبقيه الرجل مما يخرجه، وهو لا يستبقي إلا أجوده وأفضله، فصار لفظ البقية مثلاً في الجودة، والاستثناء في ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ منقطع‏:‏ أي‏:‏ لكن قليلاً ممن أنجينا منهم ينهون عن الفساد في الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ هو متصل لأن في حرف التحضيض معنى النفي، فكأنه قال‏:‏ ما كان في القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، و‏"‏ من ‏"‏ في ‏{‏ممن أنجينا‏}‏ بيانية، لأنه لم ينج إلا الناهون‏.‏ قيل‏:‏ هؤلاء القليل هم قوم يونس لقوله فيما مر‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ وقيل‏:‏ هم أتباع الأنبياء وأهل الحق من الأمم على العموم ‏{‏واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ‏}‏ معطوف على مقدّر يقتضيه الكلام، تقديره‏:‏ إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه اتبع الذين ظلموا بسبب مباشرتهم الفساد وتركهم للنهي عنه ما أترفوا فيه‏.‏ والمترف‏:‏ الذي أبطرته النعمة، يقال‏:‏ صبيّ مترف‏:‏ منعم البدن، أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش، ورفاهية الحال وسعة الرزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة واستغرقوا أعمارهم في الشهوات النفسانية؛ وقيل المراد بالذين ظلموا‏:‏ تاركو النهي‏.‏ وردّ بأنه يستلزم خروج مباشري الفساد عن الذين ظلموا وهم أشدّ ظلماً ممن لم يباشر، وكان ذنبه ترك النهي‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية عنه‏:‏ «وأتبع الذين ظلموا» على البناء للمفعول، ومعناه‏:‏ أتبعوا جزاء ما أترفوا فيه، وجملة‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ متضمنة لبيان سبب إهلاكهم، وهي معطوفة على أترفوا‏:‏ أي وكان هؤلاء الذين أتبعوا ما أترفوا فيه مجرمين، والإجرام‏:‏ الأثام‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم أهل إجرام بسبب اتباعهم الشهوات، واشتغالهم بها عن الأمور التي يحق الاشتغال بها، ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ معطوفة على ‏{‏واتبع الذين ظلموا‏}‏‏:‏ أي اتبعوا شهواتهم، وكانوا بذلك الاتباع مجرمين‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما صحّ ولا استقام أن يهلك الله سبحانه أهل القرى بظلم يتلبسون به وهو الشرك، والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي الحقوق لا يظلمون الناس شيئاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده حتى ينضمّ إليه الفساد في الأرض، كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم، وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء‏.‏

وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ حال من الفاعل‏.‏ والمعنى‏:‏ وما كان الله ليهلك القرى ظالماً هم حال كونهم مصلحين غير مفسدين في الأرض، ويكون المراد بالآية تنزيهه سبحانه وتعالى عن صدور ذلك منه بلا سبب يوجبه، على تصوير ذلك بصورة ما يستحيل منه، وإلا فكل أفعاله كائنة ما كانت لا ظلم فيها، فإنه سبحانه ليس بظلام للعبيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ وما كان ربك ليهلك أحداً وهو يظلمه، وإن كان على نهاية الصلاح، لأن تصرفه في ملكه، دليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 44‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وما كان ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون‏:‏ أي مخلصون في الإيمان، فالظلم المعاصي على هذا‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ أي‏:‏ أهل دين واحد، إما أهل ضلالة، أو أهل هدى‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ جعلهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه، أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان، ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ في ذات بينهم على أديان شتى، أو لا يزالون مختلفين في الحق أو دين الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ مختلفين في الرزق‏:‏ فهذا غنيّ، وهذا فقير ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ بالهداية إلى الدين الحق، فإنهم لم يختلفوا، أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام، بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله، وهو الحق الذي لا حق غيره، أو إلا من رحم ربك بالقناعة‏.‏ والأولى تفسير لجعل الناس أمة واحدة بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ واضحاً غير محتاج إلى تكلف ‏{‏ولذلك‏}‏ أي‏:‏ لما ذكر من الاختلاف ‏{‏خَلْقَهُمْ‏}‏ أو ولرحمته خلقهم‏.‏ وصحّ تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي‏.‏ والضمير في خلقهم راجع إلى الناس، أو إلى ‏{‏من‏}‏ في ‏{‏من رحم ربك‏}‏؛ وقيل‏:‏ الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة، ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله‏:‏ ‏{‏عَوَانٌ بَيْنَ ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏، ‏{‏وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ معنى تمت ثبتت، كما قدّره في أزله، وإذا تمت امتنعت من التغيير والتبديل، وقيل‏:‏ الكلمة هي قوله‏:‏ ‏{‏لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ أي‏:‏ ممن يستحقها من الطائفتين، والتنوين في ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ للتعويض عن المضاف إليه، وهو منصوب ب ‏{‏نقص‏}‏، والمعنى‏:‏ وكل نبأ من أنباء الرسل مما يحتاج إليه نقصّ عليك‏:‏ أي، نخبرك به‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ حال مقدّمة كقولك‏:‏ كلاً ضربت القوم، والأنباء الأخبار ‏{‏مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ أي‏:‏ ما نجعل به فؤادك مثبتاً بزيادة يقينه بما قصصناه عليك، ووفور طمأنينته، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ في النفس وأقوى للعلم، وجملة‏:‏ ‏{‏مَا نُثَبّتُ‏}‏ بدل من أنباء الرسل، وهو بيان لكلا، ويجوز أن يكون ‏{‏مَا نُثَبّتُ‏}‏ مفعولاً لنقصّ، ويكون ‏{‏كلاً‏}‏ مفعولاً مطلقاً، والتقدير‏:‏ كل أسلوب من أساليب الاقتصاص نقصّ عليك ما نثبت به فؤادك ‏{‏وَجَاءكَ فِى هذه الحق‏}‏ أي‏:‏ جاك في هذه السورة، أو في هذه الأنباء البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والمعاد ‏{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏ يتعظ بها الواقف عليها من المؤمنين ‏{‏وذكرى‏}‏ يتذكر بها من تفكر فيها منهم، وخصّ المؤمنين لكونهم المتأهلين للاتعاظ والتذكر‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وجاءك في هذه الدنيا الحق، وهو النبوّة، وعلى التفسير الأوّل، يكون تخصص هذه السورة بمجيء الحق فيها مع كونه قد جاء في غيرها من السور، لقصد بيان اشتمالها على ذلك، لا بيان كونه موجوداً فيها دون غيرها‏.‏

‏{‏وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بهذا الحق، ولا يتعظون، ولا يتذكرون ‏{‏اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ على تمكنكم وحالكم وجهتكم، وقد تقدّم تحقيقه ‏{‏إِنَّا عَامِلُونَ‏}‏ على مكانتنا وحالنا وجهتنا من الإيمان بالحق، والاتعاظ، والتذكر، وفي هذا تشديد للوعيد والتهديد لهم، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏ فيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى‏.‏ والمعنى‏:‏ انتظروا عاقبة أمرنا فإنا منتظرون عاقبة أمركم وما يحلّ بكم من عذاب الله وعقوبته‏.‏

‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ علم جميع ما هو غائب عن العباد فيهما، وخصّ الغيب من كونه يعلم بما هو مشهود، كما يعلم بما هو مغيب، لكونه من العلم الذي لا يشاركه فيه غيره؛ وقيل‏:‏ إن غيب السموات والأرض‏:‏ نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض، والأوّل‏:‏ أولى، وبه قال أبو عليّ الفارسي وغيره، وأضاف الغيب إلى المفعول توسعاً ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة فيجازى كلاً بعمله‏.‏ وقرأ نافع وحفص ‏{‏يرجع‏}‏ على البناء للمفعول‏.‏ وقرأ الباقون على البناء للفاعل ‏{‏فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ فإنه كافيك كل ما تكره، ومعطيك كل ما تحبّ، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة، والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله سبحانه ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ بل عالم بجميع ذلك، ومجاز عليه إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر‏.‏ وقرأ أهل المدينة والشام وحفص ‏{‏تَعْمَلُونَ‏}‏ بالفوقية على الخطاب‏.‏ وقرأ الباقون بالتحتية‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا‏}‏ قال‏:‏ فهلا‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن أبيّ بن كعب، قال‏:‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية‏}‏، وأحلام، ينهون عن الفساد في الأرض‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جريج ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ‏}‏ يستقلهم الله من كل قوم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد ‏{‏واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ في ملكهم وتجبرهم، وتركهم الحق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ من طريق ابن جريج، قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ أترفوا فيه‏:‏ أبطروا فيه‏.‏

وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن جرير، قال‏:‏ «سمعت رسول الله يسئل عن تفسير هذه الآية ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وأهلها ينصف بعضهم بعضاً ‏"‏ وأخرجه ابن أبي حاتم، والخرائطي في مساوئ الأخلاق موقوفاً على جرير‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ قال‏:‏ أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ قال‏:‏ أهل الحق وأهل الباطل ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ أهل الحق ‏{‏ولذلك خَلَقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ للرحمة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عنه ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، قال‏:‏ لا يزالون مختلفين في الأهواء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عطاء بن أبي رباح ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ أي‏:‏ اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية، وهم الذين رحم ربك الحنيفية‏.‏ وأخرج هؤلاء عن الحسن في الآية قال‏:‏ الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف ‏{‏ولذلك خَلَقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ للاختلاف‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ قال‏:‏ أهل الباطل ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ أهل الحق ‏{‏ولذلك خَلَقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ للرحمة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرجا عن الحسن قال‏:‏ لا يزالون مختلفين في الرزق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، ولذلك خلقهم قال‏:‏ خلقهم فريقين‏:‏ فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم يختلف، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ لتعلم يا محمد ما لقيت الرسل قبلك من أممهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه من طرق، عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏{‏وَجَاءكَ فِى هذه الحق‏}‏ قال‏:‏ في هذه السورة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي موسى الأشعري مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير مثله أيضاً‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن الحسن مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة، قال‏:‏ في هذه الدنيا‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة ‏{‏اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ منازلكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج ‏{‏وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏ قال‏:‏ يقول انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزين لكم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ‏}‏ قال‏:‏ فيقضي بينهم بحكم العدل‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن الضريس في فضائل القرآن، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن كعب قال‏:‏ فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمة التوراة خاتمة هود ‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏